الإنشاء
يندرج ويتأطر السؤال الفلسفي المطروح، داخل سياق مجزوءة السياسة في موضوع الدولة، كما يضعنا مضمون هذا السؤال أمام محور "الدولة بين الحق والعنف"، ويتضمن هذا الأخير في طياته مفهومين أساسيين يجدر بنا أولا تحديدهما مفاهيميا ودلاليا (الدولة، الحق).
يمكن تحديد مفهوم الدولة باعتبارها تنظيم سياسي لجماعة ما على أرض محددة عبر سلطتها الممثلة في مجموعة من المؤسسات والأجهزة المرافقة لها. في حين أن مصطلح أو مفهوم الحق Le droit ، يفيد لغة اليقين وما يجب أن يكون، إما الصدقة، وإما الاستقامة، وهو المعنى الذي تحيل عليه كلمة le droit، في أصلها اللاتيني Direction، حيث تعني ما هو مستقيم ولا اعوجاج فيه، ومن ثم فهو يعبر عن ما هو مطابق لقاعدة محددة ولما هو مؤسس ومشروع.
بعد هذا التحديد لدلالة كل مفهوم ننتقل إلى الإشكال المؤطر لمضمون السؤال، والذي يمكن صياغته في التساؤل التالي:
إذا كانت الدولة هي تنظيم سياسي لجماعة ما على أرض محددة، عبر سلطتها فكيف تمارس هذه السلطة على المحكومين؟ هل تمارسها وفق ما يمليه منطق القوانين المتواضع عليها، ومبدأ الحق الذي يستهدف أمن المحكومين، أي حقهم في العيش والحرية أم على العنف والتسلط؟
كجواب على هذا الإشكال، يذهب منطوق السؤال إلى الاستفهام حول ما هي دولة الحق؟
إن الحديث عن دولة الحق والقانون يرتبط بقوة مدى سيادة الحق والعدالة والمساواة والديمقراطية في ظل تجمع إنساني هدفه التفاعل الإيجابي وتبادل الخبرات والمصالح التي تسعى نحو التعايش، وهذه المواصفات التي يتوجب أن تتوفر في دولة تدعى "بدولة الحق، يصعب تحقيقها في الواقع إذا ما لم تلتزم هاته الدولة بالعمل على الفصل بين السلط حسب قول الباحثة الفرنسية والفيلسوفة المعاصرة Jacqueline Russ صاحبة مؤلف "نظريات السلطة"، حيث تؤكد على أن الدولة يجب أن تقوم على الحق والقانون ضمانا لحرية الأفراد وحماية لكرامتهم وتمتعهم بالاحترام، كما أنها الآلية العملية التي تضمن الاحتماء الفعال من كل بطش وظلم، لأن غياب هذه الشروط يصبح لا مجال للحديث عن دولة يسودها الحق باعتباره مقابلا للعنف، وإنما سنجد أنفسنا أمام غطرسة حق القوة والاضطهاد، وجميع أشكال الفوضى خاصة إذا كانت السلطة متجمعة في يد حاكم واحد أو هيئة معينة.
تصبح هي المشرعة للقوانين والمنفذة لها والمعاقبة في الآن نفسه، مما يفرز لنا دولة استبدادية ديكتاتورية، لا تهتم بحقوق أفردها ولا بمتطلباتهم. ولهذا لا يمكن نعتها بدولة الحق، ولهذا تجيبنا جاكلين روس عن معنى دولة الحق بقولها "ما هي دولة الحق؟ إنها دولة فيها حق، وفيها قانون، يخضعان معا إلى مبدأ احترام الشخص، وهي صيغة قانونية تضمن الحريات الفردية، وتتمسك بالكرامة الإنسانية، وذلك ضد كل أنواع العنف والتخويف، دعوة إلى احترام الإنسان".
وبهذا أصبحت المرجعية الحقوقية القانونية هي مبدأ مشروعية سلطة الدولة سواء داخل المجتمع الواحد، أو على مستوى العلاقات بين الدولة، فأصبحت ثقافة الحق والقانون هي المرآة التي تنظر فيها الدولة وهي تصوغ خطابها، وتدبر أجهزتها، لكن السؤال الذي يطرح بالمقابل:
أليست الدولة بحاجة في بعض الأحيان إلى العنف للتصدي لبعض الجهات التي تهدف إلى زعزعة استقرار هذه الدولة؟
من خلال هذا التساؤل، نجد أنفسنا أمام تقابل آخر، بمعنى أن الدولة بإمكانها ممارسة العنف من أجل الحفاظ على الأمن، يقول الفيلسوف نيكولا ماكيافيلي في كتابه "الأمير": "هناك طريقتان للصراع، إما بواسطة القوانين أو بواسطة القوة. فالطريقة الأولى من شيمة الإنسان، بينما الثانية من طبيعة الحيوان. ومادامت الأولى لا تفي دائما بالغرض، فإنه من الملائم اللجوء إلى الوسيلة الثانية".
بحيث يجمع هنا ماكيافيلي بين الحق والعنف معا في أسلوب تدبير الدولة لسلطتها، فكل منهما وسيلة ضرورية ومشروعة، إذا اقتضت الغاية اللجوء إليهما، ويؤيده في هذا الموقف كل من الفيلسوف "تروتسكي" الذي يعتبر أن كل "دولة تنبني على القوة" بمعنى أن الأساس الذي تنهض عليه أي دولة يتمثل في العنف والصراع. بحيث يقول عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيير": "إن العلاقة بين الدولة والعنف علاقة حميمية جدا"، ولا يمكن تصور دولة ما لا تمارس العنف والقوة من اعتبار أن هاته الأخيرة تواجه صراعات وأفعال لا يمكن مقاومتها إلا عن طريق العنف والإكراه والاضطهاد. وهذا ما يؤكده الفيلسوف الألماني فريدريك إنجلز بقوله إن الدولة "تنشأ في جوف الصراع بين الطبقات الاجتماعية" ووجودها يهدف إلى إيقاف هذا الصراع "مما يجعل سلطتها قائمة على القوة والعنف" إذ تلك هي وسيلتها، من حيث إنها "دولة الطبقة المشغلة"، وبالتالي فنها تمارس العنف من أجل الحفاظ على هذا الاستغلال.
وعموما وخلال هذه التصورات انطلاقا من تصور ماكيافيلي إلى فردريك إنلجز، يتضح أنها تؤسس لإقامة سلطة الدولة على القوة والعنف. إذ يصبح وجودالدولة مرتبطا بمبدأ العنف ارتباطا جوهريا، وكأن هاته الدولة وجدت لتقوم بوظيفة العنف داخل المجتمع أو للحفاظ على تنظيم معين، أو حماية وضع معين.
وعلى أي، فإن الدولة ككيان يمكنها أن تعتمد على قوة القانون، لأن تطور الفكر السياسي المعاصر، وتحولات المجتمع الدولي حاليا، وتدخل ثقافة حقوق الإنسان كمقياس في تحديد الوضع الاعتباري للدولة، وأصبحت بموجبه تعمل أن لا توصف بأنها دولة قوة وعنف، وأصبحت تبرهن على عنفها بالقوانين، وتعتبره حقا مشروعا.
وفي النهاية، يمكن الجزم على أن دولة المؤسسات التي تهدف نحو الرقي بتشعبها وترسيخ مبدأ حقوق الإنسان، لا مفر لها سوى قاعدة الحوار البعيدة عن مفهوم القوة والعنف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق